Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE
latest

أيام مع قيصر

  لقد قررت أن أكون بطلًا في مواجهة هذا القط العنيد. نعم، لقد أخذت القرار بعد جلسة طويلة من التأمل العميق،


 

لقد قررت أن أكون بطلًا في مواجهة هذا القط العنيد. نعم، لقد أخذت القرار بعد جلسة طويلة من التأمل العميق،

حيث جلست أتخيل نفسي محاربًا شجاعًا في معركة أسطورية ضد مواء لا ينتهي. كانت الغرفة مضاءة بخفوت مصباح مكتبي، وكنت أرتدي نظاراتي السميكة التي تضيف لي هالة من الحكمة الزائفة، بينما كان "قيصر" – نعم، أطلقت عليه هذا الاسم الملحمي – يجلس على عتبة الباب الداخلي، يراقبني بعينين بلون العقيق الأصفر، كأنه الإمبراطور الذي ينتظر خضوع رعيته.

بدأت أفكر في خطة استراتيجية محكمة. ربما أضع حاجزًا أمام الباب؟ حاجزًا من الكتب القديمة التي لم يقرأها أحد منذ عقود، ربما يثبطه وزن "تاريخ الفلسفة اليونانية" عن التقدم. أو أعلق لافتة ضخمة مزخرفة بخط ذهبي تقول: "ممنوع المواء أثناء التفكير الجاد: منطقة حظر إبداعي".

لكنني أدركت سريعًا أن قيصر لا يقرأ اللافتات، ولا يفهم قوانين البشر الرقيقة. بل يبدو أنه يعتبر نفسه فوق كل القوانين، بما في ذلك قانون الجاذبية، حين يقفز برشاقة مذهلة على زاوية الطاولة ليحدق في وجهي بنظرة تحدٍ خبيثة، وكأنه يقول بعينيه: "أنت تحاول بناء حضارة، وأنا الساس الذي سيأتي ليزيل أساسها".

المشكلة أن هذا القط ليس مجرد قط عادي، بل هو عبقري في اختيار التوقيت المثالي لتعكير صفو أفكاري. إنه لا يموء حين أكون مشغولًا بمشاهدة مباراة كرة القدم المثيرة، أو حين أغرق في دوامة لا نهائية من تصفح وسائل التواصل الاجتماعي. لا! يتركني وشأني لأبني أهرامات من الكلمات. بل ينتظر اللحظة التي أبدأ فيها بالتفكير العميق في حل معضلات الحياة المعقدة، أو حين أخط أولى جملة في رواية قد تغير مجرى الأدب العربي. وكأنه همسة شيطانية في أذني: "لن أسمح لك بأن تصبح نجيب محفوظ الجديد، إلا إذا فتحت لي الباب أولًا".

ذات يوم قررت أن أكون أكثر دهاءً منه. وضعت له وعاءً خزفيًا فخمًا مليئًا بأفضل فتات السلمون الذي استطعت شراءه من السوق، ووضعته على بعد أمتار من الباب، وقلت لنفسي بانتصار داخلي: "هذا سيشغله لبضع ساعات على الأقل. الطعام هو لغة الكون المشتركة".

لكن ما حدث كان عكس توقعاتي تمامًا. القط، قيصر، تحرك ببطء متعمد نحو الوعاء. نظر إليه بنظرة ازدراء عميقة، كأنني قدمت له جرذًا ميتًا كهدية. ثم، دون أن يلمس الطعام بفك واحد، استدار وبدأ مواءه المعتاد، لكن هذه المرة كان النغم أعمق وأكثر إلحاحًا، كأنه لحن جنائزي لآمالي الإبداعية. لم يكن يطالب بالطعام، بل كان يصرخ في وجهي بوضوح صارخ: "لا أريد الطعام، أيها الخانع! أريد الحرية! افتح الباب يا ظالم!"

حاولت تجاهله. وضعت يدي على رأسي، مغمضًا عيني، وأنا أردد بصوت خافت: "أنا في منتصف تطوير نظريات فيزياء الكم... أنا أكتب عن مصير الوجود...". لكن المواء تحول تدريجيًا إلى سيمفونية مزعجة، تصاعدت طبقاتها الصوتية حتى شعرت وكأنني محاصر في فيلم رعب من إنتاج هوليوود، حيث الوحش لا يمكن قتله بالرصاص، بل فقط بالاستسلام لسلطته المطلقة.

وفي لحظة ضعف بشري، استسلمت. تراجعت عن مكتبي، وكأنني أرى أمامي شبحًا يلوح لي بالرحيل. فتحت الباب.

خرج قيصر بكل عنفوان، مشيًا ملكيًا، ثم توقف عند العتبة. نظر إليّ نظرة المنتصر، نظرة أستاذ جامعي ينظر إلى تلميذه الذي فشل في الامتحان النهائي. شعرت وكأنني خسرت معركة مصيرية أمام كائن لا يزيد وزنه عن خمسة كيلوغرامات من الفرو والعناد.

رجعت إلى مكاني محبطًا، وبدأت أحاول استعادة خيوط أفكاري التي تبخرت كما يتبخر الماء في صحراء قاحلة. بقيت صامتًا لدقيقتين، أراقب الفراغ. لكن المفاجأة الكبرى كانت عندما عاد القط بعد خمس دقائق فقط. عاد بخطوات سريعة، وبدأ مواءه من جديد، لكن هذه المرة لم يكن تحديًا، بل كان مزيجًا غريبًا من الشكوى والاحتياج: "مياو! مياو! (أين ذهبت؟ هل نسيتني؟ افتح الباب مرة أخرى!)".

في تلك اللحظة، أدركت الحقيقة القاسية: لن أتمكن من كتابة الرواية أو حل معضلات الحياة طالما هذا القط موجود في حياتي وينتظرني خلف الباب. فكرت في الانتقال إلى مكان آخر، ربما إلى جزيرة نائية لا يوجد فيها قطط ولا أبواب، ربما كوخ في سيبيريا. لكنني أدركت سريعًا أنني سأفتقد مواءه العنيد الذي أصبح جزءًا مزعجًا ولكنه أساسي من إيقاع حياتي اليومية. لقد أصبح هو "الزمن" الذي يقيس به إنتاجيتي.

وهكذا انتهى بي الأمر إلى التعايش مع هذا القط ومواءه. لم أعد أحاول قتاله. بل بدأت أعتبره مصدر إلهام لأفكاري. كلما بدأ مواءه، كنت أقول لنفسي: "حسنًا يا قيصر، لقد حان وقت الاستراحة الإبداعية القصيرة". أفتح له الباب، أراقبه وهو يخرج ليتأكد من أن العالم لا يزال موجودًا في الخارج، ثم يعود بعد دقائق ليطلب الدخول مجددًا، ليؤكد لي أن أفضل مكان للإبداع هو حيث يوجد تحدٍ دائم.

قررت أن أغير عنوان روايتي. لن تكون عن "معضلات الوجود"، بل ستكون بعنوان"حرب الخمسة كيلوغرامات: مذكرات كاتب محاصر بمواء مستمر". وربما، فقط ربما، سأكتب المشهد الأخير حين ينام قيصر أخيرًا بجوار لوحة المفاتيح، وأتمكن أخيرًا، لثوانٍ معدودة، من إنجاز فقرة واحدة دون مقاطعة. هذا هو الانتصار الحقيقي الذي أطمح إليه.


ليست هناك تعليقات