Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE
latest

نحن بعيون صادقة ( بداية القصة وما فيها)

  بعد بحث طويل في مكتبتي الخاصة عن كتاب (العرب وجهة نظر يابانية) وتحميله كتابًا صوتيًا من اليوتيوب، وهو للياباني نوبواكي نوتوهارا، وقبل الخو...

 


بعد بحث طويل في مكتبتي الخاصة عن كتاب (العرب وجهة نظر يابانية) وتحميله كتابًا صوتيًا من اليوتيوب، وهو للياباني نوبواكي نوتوهارا، وقبل الخوض فيه والكتابة عنه كتابة أو ملخصًا مصغرًا،

سأقص عليكم موقفين رواهما لي اثنان من معارفي، وهما البطلان في الحدثين المتفرقين. الأول كنا زملاء في العمل، أما الثاني فقد عرفت بيننا المعرفة، أعني بهما القراءة والكتابة والبحث كما يسمى بالبحث العلمي، وأنا لست أهلاً له، لعدم توفر الوسائل التي تخدمه.

أبدأ بالقصة ما قبل الأولى والثانية، لعلني أتذكر أولهما. قبل خروجي إلى التقاعد المسبق أو التفكير فيه، كنت أطرح سؤالاً، والجواب عنه كان يرهق تفكيري: ما الذي أفعله في مدة التقاعد؟ هل منحة التقاعد تفي بحقها وبواجباتي نحو أسرتي، وتكفي مصاريفي اليومية؟ هل تلبي رغباتي؟ أين وفيما أمضي أوقات فراغي؟ فكرت كثيرًا قبل اتخاذ القرار الصحيح.

كل يوم أجد جوابًا للسؤال، ما ألبث القيام به وتنفيذه حتى تطفو على سطح أفكاري أجوبة أخرى. رجعت إلى أيام الشباب: ما هو الشيء الذي كنت أفعله وأنا في حالة غضب أو حزن، وبعد القيام به أحس براحة نفسية وقليل من السعادة الروحية؟

كنت عندما أحس بإحداهما، أستعين بأوراق وأقلام، لأجل الخربشة بكلمات أو رسومات، أو أستعين بالقراءة سواء كتب أو جرائد. إن لم أجد مخرجًا لأمري، أخرج خارج البيت، أمشي لأطراف المدينة وأنا أدندن على حسب المزاج، لأفرغ تلك الطاقة السلبية.

فقلت بيني وبين نفسي... الحل موجود وجاهز ويتطلب تطوير الطريقة لأن الزمن ليس زمن النشاط وحيوية الشباب، وكلما كبر المرء قل نشاطه. بعد تفكير طويل، وحدوث مشاكل وأمور جانبية في مكان عملي، اتخذت نهائيًا قرار التقاعد...

فاتخذت من مدينتي ومدن أحبها خاطري خلوة، لأجعل منهن خليلات، فكان نصيبي من اثنتين وكره الفؤاد الأخريات. أولهن جنات النعيم، والباقيات نار من جحيم.

فأبصرت أن لكل مدينة عظماءها ومشاهيرها يخلدونها في أعمالهم وأفعالهم، كما لها آخرون تقام لهم مواسم للهجرة إلى اللامرغوب فيه. لا يستحقون حتى الالتفاتة إلى ذكر أسمائهم لسوء ما فعلوه بمحيطهم.

وضعوا لهم تاريخًا يمجدهم ويبجلهم تبجيلًا، منهم من أنسوه رغمًا أو تناسوه، وهناك من عظموه ولا يستحق ذلك التعظيم. فالتاريخ شاهد عليه وإن أخفوا تلك الحقيقة، فلا بد أن تنكشف في يوم من أيام التاريخ. وأنا أقرأ في وثيقة لم أعرف من وضعها بصندوقي الخاص بوثائق أحافظ بها لإخوتي عند حاجاتهم.

أن فلانة بنت فلان زوج فلان، تعمل لدينا عينًا ساهرة على أمننا.

فبصرت أن جاري يخاف من كلمة "حسبي الله" ويلزم اللوم حين يسمعها تصدح في الحي، جاري الآخر له رزق، حارسًا على بابه يطرق باب الجار الآخر يستلف مطرقة ومنشارًا. أما الجار الأخير، آخر مرة استعار مني الملسة (المجرفة)، استرجعتها بعد مضي عام، أجابني والغضب يملأ وجهه العريض... أحمد ربي أني لم آكلها.

في الليلة التي تعاركت فيها مع جاري، رأيت في رؤياي أحد أعز الأصدقاء يرسم فتيات أميرات على عرش إمارته، أما أنا، رأيتني آخذ من سيئات الناس، بعد نفاد حسنات قليلة كنت أمتلكها من أعمال نويت فعلها ولم أفِ بعهدي. سببها جيراني وصديق قهرني، وغريب سلب مني حق الكلام في ديري (إسطبلي).

 

حين أطوف في كامل أرجاء الوطن لألج وسط أزقته العتيقة مثل حي بابا علي معسكر، سيدي الهواري وهران أو القصبة بالمحروسة الجزائر،

لأغير وجهتي إلى الجوهرة تلمسان أو لسيدي الخيار بسطيف أو لأتعرف على أبناء عمومتي ببجاية.

أول أمر أقوم بفعله أختار الجلوس على أحد المقاعد القديمة لأعرق حديقة في المدينة التي أنا ضيف عليها أو مقيم بها. لتتراسل ما بين عيوني أجمل البطاقات مطبوعة بصورة رائعة الجمال جذابة وفائقة التعبير. ليسوقني الأمل بمخيلتي إلى أيام خلت من تاريخ النهضة.

بعد مضي فترة من الزمن، يعيدني جنوني إلى أقرب نقطة أتذكرها، لأعيد الانطلاق منها أو أجعلها منطقة عبور ما بين الأماكن. لتسافر بي الحياة بين أزقتها، وأنت حامل ما لك القدرة على تحمل حمله، تحمل حمل حلم ولد معك، كبر معك، وعند عتبة كل باب تطرق عليه لتطلب الإذن لتستريح فلا تجد لك راحة إلا ما كتب لك من قول لتقول في داخلك "يا ليت كنت ذاك الرجل أو تلك اللحظة التي تحمل لك سعادتك". لكنك تبقى كقطعة ثلج لتذوب تحت رحمة نار الانتظار، لتلملمك وتبعثرك الأماني. تنهض من جديد وتعود لأجل حمل حملك مرة أخرى، للبحث عن باب آخر كي تستريح عند عتبته والأمل لا يفارقك، لعلك تجد ما تصبو إليه منذ النعومة، نعومة أفكارك البريئة وأنت تقول أخاف أن أبقى وحيدًا مثل القمر وهو يساير الشمس ولم يلتقيا إلا في آخر الزمن.


من نفس سور المدينة، عند الحديقة الفسيحة التي تتوسطها نقطة الالتقاء، تتعثر الأماني والأفكار، تتكرر نفس الأحزان التابعة لتلك الأيام الموءودة منذ ولادتها، مجبرة على أن ترى نفس الأجساد ترافقها بلا أرواح، ترى ذات الأحلام والأمنيات تتقاذف بعيداً عن أصحابها، ترى نفس الحاكم، نفس الداهية، نفس الصور والشعارات تعيد نفسها لتتكرر وأنت لا زلت حبيس أحلامك المعلقة أعلى جسر المدينة،

معلقة على سلالم العمارات والمباني القديمة الهشة، وعلى كل قشة تتمايل بأبناء أسرارها وأسوارها. ونرى الملحقات الأدبية والثقافية، ورموزها تنهار أمام أعيننا الحزينة الكئيبة. الأشجار تُقلع من الحدائق لترى القناطر من الإسمنت على أرضها تُرفع وتُزرع، وترى الأفكار تُدفع للحضيض. أرى وترى ولا زلنا باقين قائمين لنرى أنا وأنت والجميع واقفين بلا طاقة لنا ولا حول لنُدافع عنها ضد هذا المغتصب الذي هو منها، ولدها، ابنها.

لنسمع دقات قلوب منكسرة وعمائم شفافة أعلى رؤوس أصحابها لا تقي من حر نار شمس الوطن. لنرى جميعنا ما زال منبطحاً على وجهه ليرى ما جرى.

هي انتفض، ارحل، انتحر، اصرخ، أصمت ببرودة أعصاب وأنت تُقتل ولم تجد جواباً لهذه الآهات.

سؤال يحمله كل من يسكن زقاق هذا الوطن الذي هو مني وأنتم منه، والجواب عنه يوجد خلف ذاك البحر المليء بالكثير من الأسئلة: هل أذهب أو أستأجر قارب "بوطي" للنجاة، من ذل الحياة إلى رحمة الممات؟ وتتدفق الأسئلة على الجواب.

أنا ذلك المواطن "الفرد" العربي الذي ينهض باكراً قبل الفجر وبعد دقائق إما يمشي للعمل أو ليبحث عن عمل. أنا ذلك المواطن الذي يذهب لاستخراج وثيقة إثبات الوجود لأنه حي ليوم الفرز والانتخاب، ليثبت حضوره في طابور الانتظار.

نحن كلنا ذلك المواطن البليد الخاسئ، نتن الرائحة، الذي يستفيق فجراً ليطلب قوتاً من ديكتاتوري، يومين قبل التخفي خلف الديمقراطية. أنا كذلك ذاك الذي تُطبق عليه الأحكام إما بالصبر أو بالإعدام حياً يرى تمزقاً.

نحن تلك الأرواح التي تسكن جسد كل إنسان مثقف كان أو مفكر، لتنام بأجساد الذين يعمرون المقاهي والأسواق، أو لتمضية وقتها في ملء فراغ مواطن... ضجيج.

لكل مدينة عظماؤها ومشاهيرها الذين يخلدونها في أعمالهم وأفعالهم، كما أن لها آخرين تُقام لهم مواسم للهجرة إلى ذاكرتهم التي طبعوها أو نقشوها بأعمالهم. ولهم تاريخ يمجدهم تمجيدًا، منهم من نُسيَ رغمًا أو تُناسيَ، وهناك من عُظّم ولا يستحق ذلك التعظيم. فالتاريخ شاهد عليه وإن أخفوا تلك الحقيقة، فلا بد أن تنكشف في يوم من أيام التاريخ.



ليست هناك تعليقات